«اللاعبون الذين يشبهونني حالياً؟
أعتقد أن رونالدو أقرب شيء لما كنت عليه، باستثناء أنه أفضل مني بدنياً. إنه في الـ 38 ولا يزال نشطاً. كنت أتمنى أن أستمر في الملاعب لهذا العمر؛ أعتقد أنه كان بإمكاني أن أصبح أفضل».
للوهلة الأولى يبدو التصريح أعلاه مستهلكاً؛ مجرد محاولة لجذب الانتباه من لاعب سابق ابتعد عن الأضواء لأي سبب؛ لأن الأسطورة تقول: عليك أن تربط اسمك برونالدو كي تتصدر محركات البحث.
لكن لكل قاعدة استثناءً، وقائل هذه العبارة - وإن كنا لا نعلم النوايا الحقيقية خلف تصريحه المثير - يمكن اعتباره باختصار مخل رونالدو عصره؛ إذ كان يلعب كرة القدم قريبة جداً من التي يلعبها رونالدو قبل أن يولد البرتغالي من الأساس.
في عالم مثالي، كان ماركو فان باستن ليجلس على طاولة الأفضل في التاريخ دون عناء، ودون الحاجة إلى الإشارة إلى كريستيانو، لكنه فقط توقف عن تسجيل الأهداف عند اللحظة التي وصل فيها لقمة مستواه. فما القصة؟
يجلس ماركو محملقاً لشاشة التلفاز، يراقب بإعجاب حركات لاعبي الجمباز، تبدو عليه ملامح الانبهار من قدرة هؤلاء الرياضيين على تطويع أجسادهم المثالية لتقديم عرض جمالي بمنتهى الاتزان. وقتئذٍ لم يكن بطل قصتنا سوى صبي صغير يبلغ من العمر ست سنوات، لكنه اعتقد آنذاك أنه وجد أبطالاً يتوق لمحاكاة عروضهم فور أن يشتد عوده، كانت تلك تطلعات طفل صغير، أي إنها لا بد أن تتبدد سريعاً، أو بصيغة أكثر دقة: سرعان ما قد يستبدلها، إذا ما وجد عرضاً أكثر جمالاً.
لم يستغرق ماركو الكثير من الوقت، في نفس العام، أثناء جلوسه أمام نفس الشاشة، شاهد مباراة منتخب بلاده، ليقع في غرام ما عُرف وقتئذٍ بالكرة الشاملة، يتخيل نفسه يمرر ويصوب مثل أبطاله الجدد، قبل أن تنهي صافرة نهاية المباراة تأملاته، ويتبدد معها حلمه في أن يصبح لاعب جمباز، ويبدأ حلم جديد يدور في فلك كرة القدم، والفارق الوحيد بين هذا وذاك، أن حلمه الأخير لن يتبدد مع الوقت.
كان والد فان باستن وشقيقه الأكبر لاعبَي كرة قدم، بالتالي كان تعلقه باللعبة مسألة وقت. من منافسة شقيقه ستانلي بشوارع أوتريخت، إلى التنقل بين بعض الأندية المحلية، وقع ماركو في الفخ؛ إذ كانت قدراته الهائلة وإمكانياته التقنية كافية جداً لجذب الجماهير، بينما استمتع هو بإشاداتهم كأي مراهق يرى في إعجاب الآخرين بما يقدمه تأكيداً على تفوقه.
يقول فان باستن عن هذه الفترة: «لم أكن أركز على كرة القدم في البداية، كنت أستمتع بها فقط. مع الوقت أصبحت أكثر تخصصاً في كرة القدم، ثم فكرت في أن أصبح محترفاً».
«احتفظ ماركو بسجل لمباريات لإلينكويك تحت 18 عامًا، دوَّن كل شيء: دقائق اللعب، إصاباته، وما إذا كان قد سجل. كل أسبوع كان يكتب جدول الدوري، بالانتصارات والخسائر والتعادلات وفارق الأهداف والأهداف لصالح وضد كل نادٍ في القسم».
— هوجو بورست، الكاتب الهولندي
في 1996، رصد الكاتب الهولندي هوجو بورست ما يمكن وصفه بوقوع فان باستن في غرام كرة القدم، طبقاً لبورست، احتفظ فان باستن بسجل دقيق، وإن كان موجزًا، لسنوات لعبه، على صفحات من شأنها أن تملأ ثلاثة مجلدات. حفظ والد فان باستن هذه السجلات ورعاها في غرفة طفولة نجله المزينة بخزانة من القمصان والميداليات وشارات القيادة المتنوعة التي تؤرخ لمسيرة رائعة.
لكن قبل ذلك، كان على فان باستن أن يثبت جدارته. في عمر الـ16، خضع وشقيقه لفترة معايشة مع أياكس أمستردام، أقنع ماركو الجميع بينما لم يفعل ستانلي. في أياكس، أصبح فان باستن نجم الأكاديمية، إذ سجل 68 هدفاً في 44 مباراة، كانت كفيلة جداً لتصعيده إلى الفريق الأول تحت قيادة ليو بينهاكر.
في الثالث من أبريل 1982، يدخل ماركو بديلًا ليوهان كرويف، مثله الأعلى. يسجل، ويحتفل. يقول الكاتب الإنجليزي جون تاونسند عن هذه المباراة: «منذ لحظة دخوله لتعويض كرويف لم يتوقف فان باستن قط عن التسجيل».
مع أياكس، أظهر الملقب ببجعة أوتريخت من هو، منذ أن أصبح أساسياً في 1983 وحتى رحيله في 1987، سجل 118 هدفاً في 112 مباراة بالدوري الهولندي، وسجل إجمالاً 138 هدفًا في 145 مباراة مع الفريق الهولندي بكل المسابقات. لكن في الحقيقة لم تكن الأرقام الدليل الوحيد على تميز فان باستن.
ربما يمكن اختزال عبقرية فان باستن كلاعب كرة قدم في الهدف أعلاه؛ هدف تتويج هولندا بكأس الأمم الأوروبية 1988 ضد الاتحاد السوفييتي. إذا ما حاولت تحليل هذا الهدف، تجد أن الخيارات المتاحة أمام أي مهاجم في مثل ذلك الموقف محدودة جداً؛ إما محاولة الحصول على ركنية، أو إرسال الكرة داخل منطقة الجزاء، أو استخدام حل أقل بؤساً وهو إعادتها للمكان الذي أتت منه.
يقول جون تاونسند، في مقاله ماركو فان باستن: أسطورة بلا منازع على الرغم من النهاية المبكرة، إن تسديدة فان باستن كانت توضيح لكرة القدم التي يمكن له أن يلعبها؛ إذ جمع في هدفه كل خواص لاعب كرة القدم المميز: التقنية، والاتزان، والمرونة، والبراعة، والقوة، وأخيراً الثقة.
«يتم تذكر العظماء بسبب قدرتهم على إنتاج لحظات من التألق حسب رغبتهم، هؤلاء هم من يكونون واثقين حين يبدأ الآخرون في التفكير».
— جون تاونسند
انتقل فان باستن لميلان الإيطالي في صيف 1988، وهو في سن الـ 24، مقابل 1.5 مليون دولار، دفعها سيلفيو بيرلسكوني طمعاً في الحصول على خدمات من سيصبح لاحقاً أفضل لاعب في العالم في ثلاث مناسبات. لكن المشكلة كانت أنه حتى وإن كان قد حصد بالفعل الجائزة الفردية الأهم في مناسبتين متتاليتين مع ميلان في 1989 و1992، لم يكن أبداً فان باستن الروسونيري نفس اللاعب الذي غادر أياكس.
في 1995، يعلن ماركو فان باستن اعتزاله لعب كرة القدم نهائياً في سن 28 عاماً، يقف أفضل مهاجم في هذه الحقبة مستنداً على عكازاته، يودع الجماهير التي ظلت تنتظر خبر عودته للملاعب لعامين كاملين، بينما يكتمل مشهد العزاء حين تلتقط الكاميرا دموع فابيو كابيلو، الرجل الصارم، الذي ربما لم نشاهد دموعه إلا في ذلك اليوم.
«النهاية المبكرة تعني الخلاص، يمكنه الآن المضي قدماً، بدلاً من دفع 200 ألف دولار شهرياً للأطباء من أجل إجراء تجاربهم على قدميه، وفي ذلك تجربة تمرير قضيب مكهرب عبر كاحله».
— روب هيوز، نيويورك تايمز، 18 أغسطس 1995
طبقاً للأسطورة الشعبية، السبب في حرمان فان باستن من استكمال مسيرته التي انتهت عند اللحظة التي وصل فيها لقمة التألق كان تعرضه للضرب والركل من المدافعين، خاصة أن قانون كرة القدم لم يكن يحمي اللاعبين بشكل كامل من تهور المدافعين. يوب فان باستن، والد ماركو أحد من اعتنقوا هذه الأسطورة بالفعل؛ إذ صرح أن نجله كان يواجه لاعبين لا يعرفون كم دقيقة مرت من عمر المباراة؛ لأنهم منشغلون بمحاولة منعه من التسجيل، أو بالأحرى ضربه.
«الشخص الذي دمر كاحلي ليس لاعباً بل جراح».
— ماركو فان باستن
في مقابلة حكى خلالها معاناته مع الإصابة، ومحاولاته المرهقة أثناء فترة الإصابة لمجرد العيش كإنسان طبيعي يستطيع دخول المرحاض وقتما شاء، يقول ماركو فان باستن إن هناك سببين رئيسيين لانتهاء مسيرته في سن الـ 28، عنف الملاعب لم يكن أحدها.
يزعم نجم منتخب هولندا أن العمليات المتكررة ألحقت الضرر بكاحله في سنواته الأخيرة، لكنه يؤكد أن السبب الأهم كان لعبه مصاباً في كثير من الأحيان. والمتهم الرئيسي هنا الرجل الذي يمكن اعتباره تلميذاً له؛ يوهان كرويف.
في ديسمبر 1986 تعرض فان باستن لإصابة قوية في كاحله، وقتئذٍ اجتمع كرويف مع ماركو وطبيب الفريق. أقروا جميعاً أن قدمه متضررة للغاية، لكن طبقاً لرواية اللاعب، فكرويف والطبيب أخبراه أن هنالك مشكلة، لكنها لن تتفاقم.
يقول فان باستن: «عقدت وكرويف اتفاقاً، لن ألعب كل المباريات، يمكنني التغيب عن بعض التدريبات، لكن لا بد أن ألعب في كأس الكئوس الأوروبية. أخبرني كرويف أنه عليَّ أن ألعب نهائي كأس الكئوس الأوروبية».
حقيقة لا نعلم إذا ما كانت مسيرة فان باستن لتقترب من مسيرة رونالدو كما ادعى لولا الإصابة، وربما لا يمكننا أن نلوم كرويف على محاولاته للدفع بنجمه المصاب طمعاً في الفوز بلقب أوروبي كما يؤكد فان باستن نفسه، الذي يرى مسيرته تصلح كمثال وليس كعبرة لكيف يمكن أن تنتهي مسيرة رائعة.
هكذا يمكننا أن نرى فان باستن كضحية، ليس للعنف ولا قرار مدربه ولا حتى تعامل الأطباء مع إصابته، بل ضحية لكونه لاعباً عظيماً، حاول الجميع الاستفادة من إمكانياته، ووحده من دفع الثمن.